بعد أن أصبح قريبًا من "الحرية" (أو هكذا يظن) انقشعت الغشاوة عن عينيه وسقطت بين يديه، ليست الغشاوة التي تمنعه من الرؤية، بل تلك التي كانت تحرمه بوحشية كل شيء جميل سرق من حياته، يبكي عمره المهدور خلف القضبان، كان يحاول إلقاء ذلك وراء ظهره لأنه على موعد مع لقاء ابنه علي (4 أعوام ونصف) تلك النطفة التي هربها من السجن، والآن أصبح طفلًا ينتظره في الخارج، يتخيل شكله.
تتزاحم الأسئلة بداخله: "أحقًّا سيعرفني؟!"، حفر الرجل حفرة عميقة في صندوق مخيلته، ونام، إلا أن تلك الرسائل ظلت تراوده وتتساقط عليه حتى في نومه، ينتظر اللحظة التي سيعانق فيها زوجته أول مرة بعد 15 عامًا من الارتباط.
القصة:.... ما إن أوشك قلبا صلاح حسين، وشيرين نزال (وهما من قرية بيت دقو بالقدس) أن يتحدا، وينسجا حكاية حب تحت سقف بيت واحد، حتى اعتقلته قوات الاحتلال الإسرائيلي في 2004م، كان يريد أن يلمس الوطن من قلبها، أما هي فأن يكون هو وطنها، كان عليها أن تمحو حزنه بكل ما تملك، تتخلى عن كل الأشياء لتلمح ابتسامة صغيرة على فمه.
اعتقال .. وزواج عن بعد
كانت مراسم الفرح هنا أكبر من قهر السجان، فلم تمنع قضبان السجن اتحاد الروحين بخطبة استثنائية.
ألقى الصمت بأوتاده، دموع الفرح تسيل من عيني شيرين، حينما وضعت شقيقة صلاح الدبلة في إصبعها، لتأكيد ذاك الارتباط والخطبة، كانت أمام قرار قاس تحدت فيه جبروت الانتظار ومرارة الوحدة بين غياهب السجن ومتاهات الحياة، بعد أن صدر حكم محكمة الاحتلال على خطيبها بالسجن 15 سنة ونصف سنة.
كسرت الزغاريد التي أطلقت من فم الحاضرين صمت المكان، حينما قال شقيقها لشقيق العريس: "زوجت موكلتي لموكلك"، تتكرر كثيرًا هذه المراسم غير الطبيعية في حياة الأسرى، لكن هذا الفرح لا يكتمل أبدًا.
شيرين نزال على الخط الهاتفي وهي تروي لصحيفة "فلسطين" قصتها تدرك من نبرة صوتها أن جرحها كان كبيرًا، وأن خضوب التحدي صقلت شخصيتها حتى بدتها بهذه الرزانة وهذا الهدوء، فأمامك إنسانة ليست عادية، يرحل صوتها لمراسم الخطبة: "كانت تحديًا لقرار المحكمة، لكن مع حضور العائلتين لم يكتمل الفرح؛ فمشاعر الحزن كانت كبيرة، لأن صاحب الحدث ليس موجودًا؛ فكنت بحاجته في كل تفاصيل حياتي، وكانت مشاعر الحرمان والقهر كبيرة".
تتنهد بصوت حزين: "الناس ربما يعتقدون أننا مجانين".
تحط رحال صوتها عند يوم اعتقاله: "تعاملت مع اعتقال صلاح على أنه بقربي، فكيف يريد أن يكون صلاح أكملت؛ أتممنا مراسم الخطبة والزواج، ثم بنينا بيتًا، واشتريت سيارة، وأنجبنا طفلًا من النطفة المحررة".
"في كل خطوة انتصرنا فيها، كل أسير حرم أشياء عديدة أهمها حريته، لكنني خففت عنه حرمانه".
نطفة محررة
عام 2008م، عقد قران صلاح وشيرين، وتوارد إلى أذهانهما موضوع النطف "المحررة"، الصوت الذي يخرج من سماعة الهاتف، كان لا يمل الحديث، تتنهد شيرين، بعد برهة من صمت: "الناس المحيطون بنا شجعونا، خاصة أن هناك تجارب سابقة، لكن استغرقنا في دراسة القرار عامين، لأن صلاح كان قد تبقى لخروجه من السجن تسع سنوات، ولا نريد إنجاب طفل ويحرم الأب، فارتأينا إنجابه في 2015م، خاصة أن الطفل في أول أربعة أعوام بحاجة إلى أمه أكثر من أبيه".
لكن لم يكن هذا السبب الوحيد: "صحيح أننا زوجان لكن لم نلتق مطلقًا، فتخوفنا من نظرة المجتمع، إلا أننا تفاجأنا بدفع المجتمع لنا، خاصة أننا حققنا الشرطين في الشرع الإسلامي، بوجود عقد قران، والشرط الثاني أن الزوج والزوجة حيان لإتمام عملية زراعة النطف".
يبتسم صوتها: "أقمت حفل زفاف وارتديت البدلة البيضاء، وكان الهدف من الاحتفال أننا نريد زراعة طفل، فأشهرنا خطوة النطفة المهربة".
لم يكن الحصول على النطفة سهلًا، تقول: "تضاعفت الصعوبة، لكونها أول تجربة للحمل، ولأنني أواجه الأمر بمفردي وزوجي ليس موجودًا، حتى إنني أسكن بعيدًا عن أهلي وعائلة زوجي".
يجبرها الموقف على انتزاع ضحكة خاطفة وسط ذكريات ذلك الموقف الصعب: "يومها كنت أجهز الأغراض بمفردي، أتحمل المتاعب في مراجعة الطبيب، كنت أقوم بدوري ودور زوجي".
قد تكون تفاصيل السجن قاسية، بالعيش بعيدًا عن مراسم الفرح، لكن أحيانًا يكون السجان نفسه أقسى من تلك القضبان، وضعت شيرين مولودها، وأبصر علي، ذلك الطفل الذي جاء من نطفة حررت وتسللت خارج السجن، مرت ثلاثة أشهر، أرادت شيرين ربط الطفل بوالده، إلا أن الاحتلال منعه، فرفعت قضية إلى محكمة الاحتلال العليا، فأصدرت حكمًا بمنعه أمنيًّا بذريعة أن الطفل "يشكل خطرًا على أمن (إسرائيل)".
مرت الأيام، كبر علي، أصبح يبحث عن والده؛ تجتاحها التساؤلات: "كيف بدي أفهمه أنه ممنوع!".
في أحد الأيام تستعد شيرين لزيارة صلاح، جهزت حقيبتها، تحدث طفلها بمكان وجهتها: "بدي أروح أشوف بابا"، كأي طفل يريد رؤية والده الذي تحدثه والدته عنه وتعرض صوره، ينفعل بحماسة وشوق ذاهبًا لإحضار ملابسه وهو يدس يديه بين أصابعها مبتهجًا: "يلا نروح عند بابا".
ترد: "ماما المشوار طويل وتعب عليك، بابا هو اللي بده ييجي عنا".
تعيش المشهد من جديد، وتعلق: "كنت أفهمه أنه من الصعب عليه أن يزور والده، وأنه ممنوع من ذلك، بقصة الحيوانات الأليفة التي يحكمها الأسد، لكني أعطيه الأمل أن اللقاء مع والده سيكون إلى الأبد".
أطول رحلة إفراج
11 حزيران (يونيو) 2020م، عقارب الساعة تشير نحو العاشرة صباحًا، محكومية صلاح انتهت، وصلت شيرين وطفلها إلى حاجز الظاهرية، الطفل الصغير يعتقد أنه بمجرد وصوله للحاجز سيعود بوالده، خطط علي لمراسم استقبال خاصة لوالده.
بعد دقائق، هاتف شيرين يرن، ردت على الهاتف كانت تريد أن تسمع صوت صلاح، تريد أن تصرخ وتبارك له حريته أمام الحاضرين، لكن كان توقعها خطأ؛ فالمتصل ضابط الاحتلال أطفأ تلك الفرحة فور أن بدأ الحديث: "أعدنا اعتقال زوجك، وسنعقد له جلسة محاكمة".
نزل الخبر كالصاعقة على قلبها، لقد كانت تنتظر مرور 15 سنة على أحر من الجمر، لم تعد مهيأة لصبر آخر، هيأت طفلها والعائلة لذلك، لكن السجان الذي يملك مفاتيح القضبان في لحظة يخبرها أن زوجها معتقل، فبدلًا أن يعود للبيت عاد للسجن مرة أخرى، لكنها الآن تحار ماذا ستقول لعلي!
"علي -تنادي على طفلها- يلا نروح!".
الطفل يرفض: "استني بس ييجي بابا"، اضطرت إلى إخفاء الحقيقة بعد أن وضعت يدها على شعره بلطف، تمنت لو أنها تستطيع البكاء أمامه، كانت تحبس دموعها بشدة: "ماما شكله في السجن كورونا"، فعلي أصبح يعرف ماذا يعني فيروس كورونا، لأن والدته المهندسة منذ شهرين لم تذهب إلى عملها وحدثته كثيرًا عن ذلك.
داخل السجن، كانت الأمور مختلفة، صلاح حسين يبدأ الحديث من هنا مع صحيفة "فلسطين"، سبقه بكلمات أثنى بها على تضحية زوجته: "ما إن جهزت نفسي للإفراج حتى دخلت وحدة (إليمار) للسجن، وسلمت لي أمر اعتقال، عودنا الاحتلال تنغيص الفرحة، لكن لم يذهب توقعي إلى الاعتقال، كنت قلقًا على مشاعر أهلي في الخارج".
يتابع: "ذهبوا بي إلى سجن عسقلان، ثم هداريم، ثلاثة أيام كنت أجلس على كرسي مقيد اليدين، ممنوعًا من إنزال يدي تحت الغطاء في أثناء النوم وإلا فسأعاقب بتفتيش كامل من الساعة الرابعة عصرًا حتى العاشرة مساء، ثم أنام على هذه الحالة".
لم تيأس الزوجة المقاتلة من الدفاع عن زوجها، توجهت للمحامين، لكن محكمة الاحتلال أجلت المحاكمة إلى يوم الثلاثاء.
الأحد، الضابط يتصل مرة أخرى ويخبرها بأن عليها القدوم لاصطحاب صلاح، تنهدت بعد أن أخذت شهقة طويلًا وهي تستذكر ذلك الموقف المؤلم: "بالإجراءات والعقاب نفسهما انتظرناه حتى الساعة الخامسة والنصف عند حاجز ترقوميا جنوب الخليل".
كيف استقبل علي والده؟ تفرد ابتسامة بسيطة على نبرة صوتها وهي تجيب: "هيأت علي كثيرًا بالصور أنه حينما يشاهد والده سيركض باتجاهه".
إعادة اعتقال .. وتنغيص فرحة
السيناريو الذي حضره علي في مخيلته أن لحظة الإفراج عن والده سيوجد أطفال كثر، فسيأتي ويركض نحو والده الذي عرفه فقط من الصورة وما حدثته عنه والدته، ويقول له: "أنا علي مش هدول"، لكن الظرف الذي وضع فيه الطفل كان مختلفًا عما تخيله.
الشيء الذي لم يتخيله علي أن آخر صورة شاهدها لوالده كانت قبل خمس سنوات، وحينما خرج والده من السجن احتاج أن تؤكد له والدته أن ذاك هو والده، فقد تركت السنوات الخمس الأخيرة (التي لم يشاهد فيها علي صورة لأبيه) أثرها على ملامحه وقد بدأ الشيب الأبيض يغزو رأسه، وهو ما جعل الطفل يتردد قبل أن ينطلق نحو حضن والده ويعانقه، احتاج صلاح خمس سنوات كي يرى طفله أول مرة.
شيرين ألقت ثقل وهموم 15 سنة عاشتها دون صلاح خلف ظهرها، وعانقته أول مرة في حياتها، وزارت قلبها فرحة مختلفة لم تزرها من قبل، فرحة مترعة بحزن لا تفسير له، مشهد تزاحمت فيه دموع الفرح.
السعادة تغمر الجميع، تبقى عليهم المرور من حاجز "الكونتينر" شمال شرق بيت لحم نحو منزلهم برام الله، على الحاجز ضابط الاحتلال يوقف السيارة ويطلب الوثائق الشخصية:
ضابط الاحتلال ينادي: "صلاح انزل، إنت معتقل".
شيرين تنفعل غاضبة هذه المرة: "موعده الخميس يطلع وهيكم بدكم تعتقلوه".
ضابط الاحتلال يرد: "اسمه ورقم هويته وصورته موجود عنا، قالولي بس يصل هدا الشخص وقفوا السيارة واعتقلوه، بده يقابل قائد المنطقة".
مساومة وطلب توقيع
يعلق صلاح هنا، بعدما ناب عن زوجته في الحديث: "كان من يسمى قائد المنطقة يريد أن أوقع وثيقة بأن أي حدث أكن فيه فسأعتقل، فرفضت التوقيع وقلت له: "على هذه الأرضية ما بدي أروح"، فسألني مندهشًا: "بدكاش تروح؟!"، وأمام ثباتي أطلقوا سراحي بعد نصف ساعة".
من السادسة مساءً حتى الثانية عشرة في منتصف الليل ظل قلب شيرين يغلي من القلق، تخشى أن تعود إلى نقطة الانتظار من جديد، وهي تدرك أن صبرها نفد ولا طاقة لها باعتقال جديد، قبل أن يأتيها اتصال من صلاح (يحفظ رقمها) بأنه موجود عند حاجز عوفر، وكانت هي تنتظره عند حاجز الكونتينر كل هذه الساعات.
تعلق على الموقف، بتنهيدة ممزوجة بالألم: "كان أصعب من 15 سنة، يريدون إعادة نفسيتك إلى ما قبل الاعتقال".
وصل صلاح قبل شيرين إلى البيت الذي بنته وجهزته بالكامل، فهي مهندسة، كي يحتضن أحلام العائلة: "البيت أعجب صلاح، وخرج وكان جاهزًا لاستقباله (...) حينما بدأت الإشراف على بنائه وهو فوق سطح (روف) عمارة بمدينة رام الله، أخذت موافقة صلاح، ثم بدأت التجهيز وكان يعرف بالحدث وكل شيء أفعله بعد شهرين من حدوثه، لأن الزيارات كانت كل شهرين".
على شيرين كان كل موقف أصعب من الآخر، فميلاد "علي" ليس أقل من زفافها وحدها، وأن تنجب دون زوجها ليس أقل من الحكم على صلاح بالسجن 15 سنة، وهذه المدة ليست أقل من إعادة اعتقاله يوم الإفراج عنه إذ انتزعوا فرحة الإفراج.
قبل إسدال النقطة الأخيرة في هذه القصة، كان لصلاح كلمة: "الشهادة بصبر زوجتي مجروحة، كل ما قامت به كان عن قناعة عميقة بدورها بالمشاركة في المسيرة النضالية، الشيء الصعب كذلك أنني طيلة 15 سنة ونصف لا أعرف جزءًا كبيرًا من عائلتي، 16 منهم توفوا خلال سجني، منهم والدي، خرجت وكأني ذاهب إلى عنوان أعرف اسمه فقط لا تضاريسه".
"حينما قابلت علي أول مرة، انفجرت كل المشاعر، لما احتضنته شعرت أنني أضم العالم بين يدي، وأن السنوات التي مضت لم تذهب سدى"، تنهد صوته: "أزاح علي كل الغمة السابقة".
كانت مراسم الفرح أصعب من الحزن ذاته، حضر علي مراسم زفاف والديه التي اكتملت بعد 15 سنة ونصف، كانت هذه القصة شاهدة على ظلم الاحتلال الإسرائيلي للإنسان، شاهدة على تضحية المرأة الفلسطينية، وأنه يمكن انتزاع المستحيل حتى من قلب السجن، بلغت سن صلاح (48 عامًا) وشيرين (41 عامًا)، عمر الانتظار أكل من حياتهما لكنهما خففا وطأة تأثيره بثمرة انتصارهما "علي"، تلك النطفة المحررة من السجن التي انتزعتها شيرين من قلب السجن بعدما سرق الاحتلال فرحتها قبل سنوات طويلة.